التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التعرية البحرية وجيومورفولوجيا السواحل


الجزء الثالث

ثالثاً : التغيرات في مستوى البحر


يقصد بمنسوب البحر في أبسط صورة المستوى العام لسطح مياهه بافتراض عدم تأثره بحركة المد والجزر أو الأمواج . وقد يكون للذبذبه في منسوب البحر بالنسبة لليابس أثرها الكبير في شكل الساحل ، نظرا لان أي ارتفاع أو هبوط في مستوى المياه حتى ولو لبضعة ديسيمترات بالنسبة لساحل منخفض يمكن أن يسبب تغيرات عظيمة في شكله وحينما يكون التغير في المنسوب عاليا يشير إلى حركة فعلية في مستوى البحر ذاته ، فإن آثاره تتناول كل السواحل البحرية . وتعرف مثل هذه التغيرات بالذبذبات الايوستاتية eustatic .

وترتبط أعظم الذبذبات الايوستاتية أهمية بالتغيرات المناخية التي حدثت أثناء العصر الجليدي وبعده . ففي أثنائه انتزعت كميات هائلة من مياه البحار والمحيطات لتتراكم على اليابس في هيئة غطاءات جليدية ضخمة . ويترتب على ذلك انخفاض عالمي في منسوب البحار تراوح في مختلف الجليدية بين 100-150م وبعد انقضاء العصر الجليدي وتحسن أحوال المناخ ذاب جليد الغطاءات الجليدية وانصرفت مياهه إلى البحار فارتفع مستواها .

ويعتقد أن الغطاءات الجليدية المتبقية فوق يابس العالم ما تزال تختزن مياها كافية لرفع منسوب البحار العالمية بنحو 70م . ويقدر معدل الارتفاع الايوستاتي في مختلف بحار العالم في وقتنا الحاضر بما يتراوح بين 1.12- 1.18ملم في السنة هذا وتحدث كثير من الذبذبات المحلية التي يقتصر تأثيرها على جهات معينة يصيبها تقوس أو ميل موضعي أو هبوط انكساري أو انخفاض أو ارتفاع أيزوستاتي ولقد سبق أن درست ووصفت بعض فترات طغيان مياه البحر على اليابس Transgression وخطوط السواحل أثناء عصر البلايوستوسين وأطلقت عليها أسماء معينة ، وذلك قبل أن يعرف الباحثون طبيعتها الايوستاتية ولما كانت دراسة وتتبع المناسيب المرتفعة التي حدثت أثناء الفترات الدفيئة اسهل بكثير من دراسة وتتبع المناسيب المنخفضة التي حدثت أثناء الفترات الباردة ، لذلك فقد ارتبطت التسميات بالفترات غير الجليدية وغالبا ما نجد مدى ومجال انحسارات مياه البحر Regression القديمة عن اليابس أثناء الفترات الباردة غير محدد ، بل وغير معروف . ومن بين خطوط السواحل البلايوستوسينية التي اكتشفت ودرست دراسة دقيقة وأصبح أمرها مؤكدا تلك الخطوط التي اكتشفها ودرسها (M.Ginoux (1913 في سواحل جنوب إيطاليا وجزيرة صقلية . ولقد وضع لها هذا الباحث وأيضا (Ch.Deperet (1918-1920 على الخصوص ، تسميات أصبحت الآن تمثل الأساس العام الذي بنيت عليه الدراسات الأخرى الخاصة بسواحل البحر المتوسط كلها . شكل 7 .





(7) الارصفة البحرية الناتجة عن الذبذبات الايوستاتية الجليدية في منسوب البحر الابيض المتوسط أثناء الزمن الرابع .


شكل 7 الأرصفة البحرية الناتجة عن الذبذبات الايوستاتية الجليدية في منسوب البحر الأبيض المتوسط أثناء الزمن الرابع . (شكل مبسط عن P.Woldstedt وآخرين) ففي جنوب إيطاليا نجد الرصيف الكالابري Calabriano ,Calabrien ويشمل كل الدرجات الساحلية التي تقع منسوب 100م و 200م فوق منسوب مياه البحر المتوسط الحالي شكل 7 . ويقع الرصيف الصقلي Sicilian بتكويناته الساحلية الخاصة به بين ارتفاعي 80م ، 100م فوق مستوى مياه البحر الحالي .

وقد سمى باسم شبه جزيرة ميلازو Millazzo التي تقع عند الساحل الشمالي لجزيرة صقلية ، ثم يتلو هذا الرصيف التيراني Tyrrhenian الذي يقع عند حوالي منسوب 35 إلى 40م فوق مستوى البحر الحالي . ويمكن تتبع هنا الرصيف بوضوح حول سواحل البحر التيراني .

وقد تباين استخدام مفهوم الرصيف التيراني في مختلف الأبحاث . فهو يقتصر في بعض الأبحاث على الدلالة على ما يسمى "بالمنسوب الأقدم" . وفي الأبحاث الأخرى نجده يقسم إلى درجات ، فالدرجة الساحلية التي تقع على منسوب 35م تسمى بالرصيف التيراني رقم (1)I Tyrrhenien وأسفل هذا الرصيف نجد درجة أخرى شديدة الوضوح على مستوى 15م إلى 18م فوق منسوب البحر الحالي وتسمى بالرصيف التيراني رقم (2) II Tyrrhenien ويسمى الباحثون الفرنسيون هذا الرصيف بالرصيف الموناستيري Monasterien نسبة إلى بلدة في تونس تسمى موناستير Monastir .


(8) الأرصفة البحرية الايوستاتية التي نشأت في الزمن الرابع كما يراها الباحث J.Buedel




شكل 8 الأرصفة البحرية الايوستاتية التي نشأت في الزمن الرابع كما يراها الباحث J.Buedel (الارتفاعات منسوبة لمستوى البحر الحالي)

ع ح = العصر الحاضر
ف = فترة الفورم الجليدية
ر – ف = فترة ريس = فورم الدفيئة
ر = فترة ريس الجليدية
م – ر = فترة مندل الجليدية
ج – ر = فترة جونز – مندل الدفيئة
ج = فترة جونز الجليدية
ق – ج = فترة ما قبل جونز
فيل = فيل فرانشي

وحينما اكتشف رصيف ساحلي آخر فيما بعد عند مستوى 7م إلى 8م فوق مستوى البحر الحالي ، بدأ الباحثون يتحدثون عن الرصيف السابق (الموناستيري أو التيراني رقم 2) باسم الرصيف الموناستيري الرئيسي أو الرصيف الموناستيري رقم (1) ، وأصبحوا يعبرون عن المستوى الاحدث اكتشافا والأقل منه ارتفاعا بتعبير الرصيف الموناستيري المتأخر أو الموناستيري رقم (2) أو التيراني رقم (3) ونجد بعض الباحثين يعتبرون الرصيفين الموناستيري الرئيسي والموناستيري المتأخر معا موازيين للرصيف التيراني رقم (2) .

وقد أطلق على أحدث ارتفاع بلغة مستوى البحر بعد انتهاء الفترة الجليدية الأخيرة إلى العصر الحالي اسم الطغيان الفلاندري أو الطغيان "الفيرسيلي" TransgressionVersilienne=Flandrienne نسبة إلى السهل الساحلي المسمى Bassa Versilia الذي يقع إلى الشمال من بلدة "بيزا" Pisa في إيطاليا . وقد اتضح وجود منسوب آخر لمياه البحر في بعض المناطق الساحلية أكثر حداثة ، وهو يقع أدنى من منسوب البحر الحالي بمعدل بضعة أمتار قليلة ، وهو ما يسميه الباحثون بخط الساحل أو رصيف "نيس" ، ويسمى أيضا رصيف Tapes . ولا شك أن هذا التطور الأحدث الذي حدث لخطوط السواحل البحرية قد تم بعد ذوبان الجليد وتراجعه نهائيا . ولم يقتصر حدوث الذبذبات في المستوى النسبي لمياه البحر على العصور الجيولوجيه وحدها ، و إنما تعداها إلى العصور التاريخية ، بل ويمكن قياسها وملاحظاتها في وقتنا الحاضر . ففي جنوب السويد استطاع علماء مثل سيلسيوس Celcius أن يقوموا بدراسات وملاحظات دقيقة ، وأن يسجلوا حدوث ذبذبات واضحة في المنسوب النسبي للبحر ، وواصل البحاث المحدثون القيام بعملهم ، وقد سبقت الإشارة إلى بعض من نتائج أبحاثهم في هذا الصدد . وقد أمكن العثور على كثير من الشواهد البشرية الأثرية كبقايا مراكز الاستقرار في العصور الحجرية ومخلفات يونانية ورومانية ، والأدلة النباتية كمخلفات الغابات الغارقة ، وكلها توجد في وقتنا الحالي أسفل مياه البحر بجوار الشواطئ التي أصابها الهبوط و الإغراق ومن الشواهد الطبيعية ما يشير إلى ارتفاع المناطق الساحلية ، ومنها الشواطئ المرتفعة والجروف البحرية القديمة التي تقف الآن بارزة فوق مستوى البحر الحالي . وصفوة القول أن للتغيرات في منسوب البحر آثارها الهامة في إظهار شواطئ وسواحل جديدة تنكشف لفعل البحر ، وتتعرض لفعل الامواج التي تخلع عليها أشكالا وصورا جديدة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعرية البحرية وجيومورفولوجيا السواحل

التعرية البحرية وجيومورفولوجيا السواحل

التعرية البحرية وجيومورفولوجيا السواحل